من أظهر الدلائل على كمال الشريعة وشمولها وصلاحيتها لكل زمان ومكان وحال: أنها جعلت الأصل في الأشياء كلها هو الطهارة والإباحة إلا ما دل الشرع على نجاسته أو تحريمه، كما جعلت القاعدة في العادات وسائر المعاملات هو الحل والإباحة إلا ما استثناه الشارع وقضى بتحريمه، فالأصل في كل العقود والمعاملات، وأنواع البيوع والتجارات، والمطعومات والمشروبات، والمركوبات والمستعملات، والصناعات والمخترعات، وأنواع العادات والتعاملات هو الإباحة والجواز إلا ما نهى عنه الشرع وحرمه، لما فيه من الظلم والتعدي، أو الضرر والمفسدة.
وهذه قاعدة عظيمة يدخل تحتها ما لا يحصى من فروع الشريعة، وهي فروع كثيرة تتجدد وتتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال.
وإذا تقررت هذه الحقيقة، وعرفت هذه القاعدة الجليلة علمنا أنه لا بدعة في مجال العادات والمعاملات والمخترعات، ومن زعم تحريم شيء منها فإنه يطالب بالدليل على التحريم، فإن لم يكن معه دليل فقوله مردود، والأصل هو الإباحة.
هذا هو الأصل في العادات والمعاملات، أما العبادات فإنها على الضد من ذلك، فالأصل فيها هو الحظر والمنع إلا ما دل عليه الشرع، فليس لمسلم أن يخترع عبادة من عند نفسه، ولا يجوز له أن يتقرب إلى الله إلا بما شرعه الله وأذن به، فإن فعل كان مبتدعاً ضالاً، وعمله مردود عليه غير مقبول منه، ولو كانت نيته صالحة، وقصده التقرب إلى الله تعالى.
ولقد تواترت نصوص الكتاب والسنة على أن أي عمل يتقرب به العبد إلى الله لا يكون صالحاً ومقبولاً عند الله إلا بشرطين:
الأول: أن يكون موافقاً لشرع الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.
والثاني: أن يكون خالصاً لوجه الله، لا شرك فيه ولا رياء ولا سمعة.
فالله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان صالحاً وابتغي به وجهه، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ}، فقد تضمنت الآية شرطي قبول العمل والمثوبة عليه، وهما: الإخلاص لله، الذي دل عليه قوله: {أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله}، والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، الذي دل عليه قوله: {وَهُوَ مُحْسِنٌ}، فلا يكون العمل حسناً صالحاً إلا إذا كان مما شرعه الله وأذن للعباد بفعله والتقرب به، وإلا كان بدعة محدثة، كما قال الله عز وجل منكراً على المشركين: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ}، وقال عز وجل: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} ولم يقل أكثر عملاً، فقد يكون العمل شاقاً مجهداً، وربما يأخذ وقتاً طويلاً، وتصرف فيه أموال كثيرة، لكنه عمل غير صالح، فيرد على صاحبه ويجعله الله هباءً منثوراً، لأنه غير موافق للشرع، أو غير خالص لوجه الله، كما قال تعالى عن أعمال الكفار: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا}، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" وفي رواية: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" متفق عليه.
فحسن العمل مقيد بموافقته للشرع، وخلوصه لوجه الله تعالى، قال الفضيل بن عياض في تفسير هذه الآية {أَحْسَنُ عَمَلًا}: أي أخلصه وأصوبه، فإن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة، اقرؤوا إن شئتم {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}.
فجميع العبادات القولية والفعلية مبنية على الشرع والاتباع، لا على الاستحسان والابتداع، فإذا تعبَّد الإنسان بشيء لم يدلَّ عليه كتاب ولا سنة ولا إجماع فإنه عمل غير صالح، وشرع لم يأذن به الله، وبدعة محدثة، لا تزيد صاحبها من الله إلا بعداً، ولا ينفعه أو يشفع له أن نيته طيبة، وقصده حسن، فإن صلاح النية لا يجعل الباطل حقاً، ولا يصيِّر البدعة سنة، ولا يجعل المعصية طاعة وقربة، قال الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
فشرع الله الذي دل عليه الكتاب والسنة هو الصراط المستقيم الذي يجب اتباعه والوقوف عند حدوده، وما عداه من البدع والمحدثات فإنه السبل التي نهينا عن اتباعها والتعلق بها، وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والنسائي والحاكم عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه- قال: "خط لنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم- خطاً بيده، ثم قال: "هذا سبيل الله مستقيماً" ثم خط خطوطاً عن يمين ذلك الخط وعن شماله، ثم قال "وهذه السبل، ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه" ثم قرأ هذه الآية {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبه: "أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة ضلالة" رواه مسلم وأحمد وابن ماجه، ورواه النسائي بلفظ "وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار"، فمن أراد النجاة فعليه باتباع السنة، والحذر من كل محدثة وبدعة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي والحاكم والذهبي، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم"، وصدق القائل:
وخير الأمور السالفات على الهدى وشر الأمور المحدثات البدائع
والبدعة: هي طريقة مخترعة في الدين ليس لها دليل من كتاب أو سنة، يقصد مخترعها التقرب بها إلى الله عز وجل.
وقد تكون هذه البدعة بإحداث عبادة ليس لها أصل في الشرع، مثل بدعة الاحتفال بمناسبة الإسراء والمعراج، أو مناسبة الهجرة النبوية، أو المولد النبوي، أو غيرها من الاحتفالات الدينية التي لم يأذن بها الله، ولم يفعلها أتقى الخلق لله، وأخشاهم له، وأنصحهم لعباده، والمكلف بتبليغ رسالاته، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا فعلها أصحابه وخلفاؤه من بعده، وهم أكثر الناس محبة له، وأحرصهم على الاقتداء به واتباع سنته، بل ولم تفعلها القرون المفضلة الأولى، ولا أتباعهم بإحسان إلى يوم الناس هذا.
وقد تكون البدعة بتخصيص وقت أو مكان للعبادة ليس له خصوصية في الشرع، وذلك كتخصيص بعض الأشهر أو الأيام والليالي بصلاة أو صيام أو ذكر أو دعاء، كتخصيص شهر رجب أو أول جمعة منه، أو ليلة السابع والعشرين منه، أو غيرها من الشهور والأيام والليالي بشيء من هذه العبادات، فإن أصل الصيام والقيام والذكر مشروع بأدلة كثيرة، لكن تخصيصه بوقت محدد يحتاج إلى دليل.
وقد تكون البدعة بإحداث صفة للعبادة، والتزام هيئة معينة لم يدل عليها الشرع، وذلك كترديد كلمة: الله، الله، الله، أو كلمة: هو، هو، هو، ونحوها، وترك الذكر المشروع الثابت في الكتاب والسنة، كقول: لا إله إلى الله، أو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أ كبر، ونحوها من الأذكار الكثيرة المعروفة، ومن الابتداع في صفة العبادة: الدعاء الجماعي بأصوات مطربة بعد الصلوات المفروضة، والأذكار الجماعية التي تقال بصوت واحد لغير غرض التعليم والتحفيظ، وما أشبه ذلك.
وتكون البدعة أيضاً بتحديد عدد معين للعبادة لم يدل عليه دليل شرعي، كمن يحث الآخرين على التهليل أو التسبيح أو الاستغفار خمسة آلاف مرة في اليوم مثلاً، أو ألف مرة، أو خمسمائة مرة، أو ثلاثمائة، أو خمسين أو ستين، أو نحو ذلك، وهو عدد يخترعه من نفسه، ولا يستند إلى دليل من كتاب ولا سنة، وقد انتشر هذا النوع من البدع مع انتشار الرسائل النصية عبر الجوالات والقنوات، وكثير ممن يرسلها يحسب أنه يحسن صنعاً، ويعين على خير.
ولقد حرم الله البدع، وحذّر منها، وشدد النكير على أهلها، لما فيها من المفاسد العظيمة، وما يترتب عليها من اللوازم الباطلة الكثيرة، ومن ذلك: أن البدعة قدح في الشريعة، واتهام لها بالنقص وعدم الوفاء بمصالح العباد الدينية والدنيوية، فصاحب البدعة حين يتقرب إلى الله بعبادة لم يشرعها الله فكأنه يرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبلغ البلاغ المبين، ولم يكمل ما كلف به من تبليغ الرسالة، وأن الدين ناقص، ويريد أن يكمله ببدعته تلك، ولو كان معتقداً لكمال الشريعة وتمامها لما زاد فيها ما ليس منها، ولم يبتدع فيها شيئاً لم يأذن به الله، قال الإمام مالك رحمه الله: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة، لأن الله تعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً"، وقال ابن القيم رحمه الله: "والمبتدع يتهم ربَّه بأنه لم يكمل الدين قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو مكذب بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، أو يتهمُ الرسول صلى الله عليه وسلم بعدم البلاغ".
ومن مفاسد البدع: أنها تقضي على الدين الصحيح، وتمحو السنة، روى الإمام أحمد عن النبي – صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما ابتدع قوم بدعة إلا نزع الله عنهم من السنة مثلها" فكلما أحدثت بدعة تركت سنة، وهكذا حتى تكثر البدع، وتضمحل السنن، ويتلاشى الدين شيئاً فشيئاً.
ومن ذلك: أن أصحاب البدع يزهدون في السنن، ويستثقلون العمل بها، بينما ينشطون في البدع، وتنبعث هممهم للقيام بها، فهم ينفقون أموالهم، ويتعبون أبدانهم، ويضيعون أوقاتهم في إحياء البدع والاحتفال بها، وقد يكون بعضهم مقصراً في أداء الواجبات، كإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وبر الوالدين وصلة الأرحام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحو ذلك، وذلك من كيد الشيطان بهم، وتزيينه الباطل في أعينهم.
ومن مفاسدها أيضاً: أنها تورث التفرق والاختلاف، وتسبب التمزق والتشرذم، وتجعل الأمة شيعاً وأحزاباً، لأن كل فريق من أولئك المبتدعة يرى أن ما هو عليه أحسن مما عليه الآخرون، وأن ما يمارسه أو يدعو إليه من هذه البدع طاعة وحق، وأن من ينكر عليه أو لا يفعل فعله منكر للحق أو مقصر فيه، فيقع الاختلاف بين الأمة، ويلبس الحق على العامة، ويحيد الناس عن الجادة، ويصبحون أحزاباً متناحرة، {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}، فتختلف قلوبهم، وتتفرق كلمتهم، ويقعون فيما نهى الله تعالى عنه في قوله: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}، وقوله: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
ومن أشد مفاسدها: أنها تشوه صورة الدين الصحيح، وتلوث صفاءه ونقاءه، وتصرف الناس عن اتباعه والدخول فيه، وبخاصة تلك البدع التي يمارسها كثير من الشيعة في مناسبات مختلفة، وكذا غلاة المتصوفة، حيث يظن من يشاهد هذه البدع، وما تتضمنه من تعذيب الجسد، والعويل والصياح، واللعن والسب، أو المعازف والأغاني، والسفور والاختلاط الفاحش، وهو لا يعرف حقيقة الإسلام: أنه مجموعة من الخرافات والخزعبلات، أو العبث والطقوس الفارغة، والأعمال الشاقة التي تستنكرها العقول السليمة والفطر المستقيمة، وهذا من أعظم التشويه لدين الله والصد عن سبيله، وهو ما يسعى إليه أعداء الله من الكفار والمنافقين، ولهذا نشاهدهم يشاركون في هذا البدع ويروجون لها بشتى الوسائل.
وقد ذكر عن ملك غير مسلم أنه مر على شيخ صوفي، وعنده نساء ومردان وهم يغنون ويرقصون ويشربون الخمور ـ وهذا هو ما يفعله كثير من غلاة الصوفية، خصوصاً عند الاحتفال بمولد أحد أسيادهم من أهل القبور، الذين يدعونهم ويتقربون إليهم بأنواع القربات من دون الله ـ فتساءل هذا الملك: ما يريد هؤلاء بأفعالهم هذه؟ فقالوا: يطلبون الجنة، فقال بعفوية وفطرة نقية: إذا كان هذا هو طريق الجنة فأين طريق النار؟!
ومن البدع المحدثة في دين الله، والدين منها براء: اعتقاد أفضلية العمرة في شهر رجب، وتخصيص بعض أيامه ولياليه بدعاء وصلاة وصيام، وبخاصة ليلة أول جمعة من رجب ونهارها، وليلة السابع والعشرين منه، حيث يزعمون أنها ليلة الإسراء والمعراج.
وعلى الرغم من ثبوت الإسراء والمعراج بالتواتر وشهرته في الكتاب والسنة إلا أن تحديد وقوعه بالسنة أو الشهر أو اليوم مما اختلف فيه أهل العلم ونقلة الأخبار والسير، وما كان هذا الاختلاف على الرغم من شهرة هذه الواقعة وأهميتها إلا لما استقر لدى السلف الصالح رضوان الله عليهم من أن معرفة وقت حدوث هذه الواقعة لا يترتب عليه أمر ديني أو مصلحة شرعية، إذ المقصود هو الاعتبار والتأسي، وهو غير مرتبط بزمن.
أما ما يفعله بعض المسلمين، وتتناقله بعض وسائل الإعلام من إحياء ذكرى الإسراء والمعراج في ليلة السابع والعشرين من رجب بأنواع الاحتفالات والأذكار والعبادات فإن ذلك كله من البدع المحدثات، ولو كان الاحتفال بهذه الليلة وتخصيصها بذكر وعبادة معينة أمراً مشروعاً وعبادة تقرب إلى الله لفعله النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، فهم أحرص الناس على الخير وأسبقهم إليه.
والعجب أن كثيراً ممن يحيون هذه البدعة، ويحتفلون بالإسراء والمعراج لا يهتمون بالصلوات الخمس التي فرضت في تلك الحادثة، ولا يشهدونها مع الجماعة، فهم ينشطون في البدع ويقعدون عن الواجبات والسنن.
ثم إن المناسبات في تاريخ الإسلام كثيرة، وكلها أحداث جسام، ومناسبات عظام، يفرح بها كل مؤمن، وينشرح لها صدر كل مسلم، من المولد النبوي، إلى البعثة إلى الهجرة، إلى بدر وفتح مكة، إلى الغزوات الفاصلة في تاريخ الإسلام كله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وعهود أئمة الهدى من بعده، ولم يكن من السنة أن تتخذ عيداً يتحراه الناس ليفعلوا فيه ما يفعله بعض المسلمين اليوم، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، فهم أعلم بشرع الله، وأسبق الناس إلى الخير.
وقد وقفت تلك القرون المفضلة، المشهود لها بالخيرية عند هذا الحد، فلم تكن تعمد إلى إحياء ذكرى الحوادث الإسلامية، ولم تتخذ من الأيام المفضلة أعياداً تخصها بتجمع أو عبادة من غير دليل ولا مستند شرعي، والخير كل الخير فيما ذهبوا إليه، والصواب فيما وقفوا عنده، والاقتداء بهم واجب في الدين، وفيه تحصيل رضي رب العالمين.
وليس لشهر رجب من فضيلة إلا أنه من الأشهر الحرم التي قال الله فيها: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُم}، وفي الصحيحين عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الزمان استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً: منها أربعة حرم: ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان" الحديث.
وما سوى ذلك فإنه لم يثبت في فضله نص واحد يعتمد عليه، وكل ما ورد فيه فإنها أحاديث ضعيفة أو موضوعة لا يجوز الاعتماد عليها، ولا العمل بما دلت عليه.
ومثل ذلك ما قيل في فضل ليلة النصف من شعبان واستحباب قيامها، وصيام يومها، وأن مقادير السنة تقدر في تلك الليلة، فقد ورد فيها أحاديث كثيرة كلها ضعيفة لا تقوم بها حجة كما قاله أهل التحقيق، اللهم إلا حديث واحد اختلف العلماء في ثبوته، فضعفه أكثرهم، وصححه بعضهم كابن حبان والألباني، لأنه روي عن طريق جماعة من الصحابة من طرق مختلفة يشد بعضها بعضاً، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يطَّلع الله تبارك وتعالى إلى خلقه ليلة النصف من شعبان، فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن" رواه أحمد والطبراني وابن حبان والبيهقي والبزار وابن أبي عاصم وابن عساكر وغيرهم.
ومن هذه البدع التي لا دليل عليها: ما يسمى بصلاة الرغائب، وصلاة مائة ركعة ليلة النصف من شعبان، قال الإمام النووي: "الصلاة المعروفة بصلاة الرغائب، وهي اثنتا عشرة ركعة بين المغرب والعشاء ليلة أول جمعة من رجب، وصلاة ليلة النصف من شعبان مائة ركعة، هاتان الصلاتان بدعتان منكرتان، ولا يُغتر بذكرهما في كتاب "قوت القلوب"، و"إحياء علوم الدين" ولا بالحديث المذكور فيهما، فإن كل ذلك باطل".
وقد ألف الإمام المقدسي كتاباً كاملاً في إبطال فضل العمل في هاتين الليلتين، وأنه لم يرد فيه حديث يعتمد عليه.
وألف الحافظ ابن حجر كتاباً سماه "تبيين العجب بما ورد في فضل رجب"، وأورد فيه جميع الأحاديث التي تخص هذا الشهر وتبين فضيلته، والعبادات المشروعة فيه، ثم بين بطلانها، وأنه لا حجة في شيء منها حيث قال رحمه الله: "لم يرد في فضل شهر رجب، ولا في صيامه، ولا في صيام شيء منه معين، ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحجة، وقد سبقني إلى الجزم بذلك الإمام أبو إسماعيل الهروي الحافظ، رويناه عنه بإسناد صحيح وكذلك رويناه عن غيره"
ثم بين الحافظ ابن حجر مذهبه في الحديث الضعيف، وهو عدم العمل به مطلقاً لا في فضائل الأعمال ولا في غيرها، حيث قال: "ولا فرق في العمل بالحديث في الأحكام أو في الفضائل؛ إذ الكل شرع".
وقال الإمام ابن القيم في "المنار المنيف": "وكل حديث في ذكر صوم رجب، وصلاة بعض الليالي فيه فهو كذب مفترى".
هذا وأسأل الله تعالى أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه، صواباً على سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يجعلنا ممن يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون, والحمد لله رب العالمين.
اسم الكاتب: د. عبدالعزيز بن فوزان الفوزان
مصدر المقال: موقع صيد الفوائد